~ بسم الله الرحمن الرحيم ~
- مقدمة -
قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الّذينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلبَاب} صَدَقَ اللهُ العَظِيم
ما كان حديثًا يُفتَرى , ولا فُتوناً يتردّد , ذلك الحديث الذي رَوى به التاريخ أنباء أعظم ثُلّةٍ ظهرت في دنيا العقيدة والإيمان..!!
ذلك أن التاريخ الإنساني بطُولِه وبعرضه , لم يشهد من التوثيق والصدق وتحرّي الحقيقة ما شهدته تلك الحقبة من تاريخ الإسلام ورجاله السابقين , حيث توفر على دراستها وتتَبٌّع أنبائها جُهدٌ بَشري خارق , نهضت به أجيال مُتساوقة من علماءَ أفذاذٍ لم يدّعوا من ذلك العصر الأول للإسلام همسة, ولا خلجة إلا وضعوها تحت مَجاهر الفحص وأضواء الدراسة والنقد.
~ مُصْعَبُ بِنْ عُمَيْر ~ * ~ أَوّلُ سُفَرَاءِ الإسْلَام ~
هذا رجل من أصحاب محمد , غُرّةُ فتيان قريش , وأوفاهم بهاء , وجمالًا , وشباباً...
يصف المؤرخون والرواة شبابه , فيقولون: " كان أعطَر أهل مكة "
وُلدَ في النعمة , وغذّيَ بها , وشب تحت خمائلها ..
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر من تدليل أبويه بمثل ما ظفر به " مُصْعَبُ ابن عُمَيْر "..
ذلك الفتى الرّيان , المدلل المنعَّم , حديث حِسان مكة , ولؤلؤة ندواتها ومجالسها , أيمكن أن يتحول إلى أُسطورة من أساطير الإيمان والفداء...؟؟
بالله ما أروعه من نبأ .. نبأ " مصعب بن عمير " , أو " مصعب الخير " كما كان لقبه بين المسلمين .. !!
إنه واحد من أولئك الذي صاغهم الإسلام وربّاهم " مُحَمّد " عليه الصلاة والسلام...
ولكن أيّ واحد كان...؟
إن قصة حياته لَشرفٌ لبني الإنسان جميعاً...
لقد سمع الفتى ذات يوم , ما بدأ أهل مكة يسمعونه عن محمد الأمين...
" محمد " الذي يقول إن الله أرسله بشراً ونذيراً , وداعياً إلى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتُصْبح ولا همَّ لها , ولا حديث يَشغلها إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه , كان فتى قريش المدَلَّل أكثر الناس استماعاً لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه , زينة المجالس والندوات , تحرص كل ندوة على أن يكون " مصعب " بين شهودها , ذلك أن أناقة المظهر ورجاحة العقل كانتا من خصال " ابن عمير " التي تفتح له القلوب والأبواب ..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه , يجتمعون بعيداً عن فضول قريش وأذاها ... هناك على الصَّفا في دار " الأرقم بن أبي الأرقم " فلم يطل به التردد , ولا التلبث والإنتظار , بل صحب نفسه ذات مساء إلى " دار الأرقم " تسبقه أشواقه ورُؤاه ...
هناك كان الرسول يلتقي باصحابه فيتلو عليهم من القرآن , ويصلي معهم لله العلي الكبير.
ولك يكد " مصعب " يأخذ مكانه , وتنساب الآيات من قلب الرسول متألقة على شفتيه , ثم آخذةً طريقاً إلى الأسماع والأفئدة ؛ حت كان فؤاد " ابن عمير " في تلك الأمسية الفؤاد الموعود .. !!
ولقد كانت الغبطة تخلعه من مكانه , وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول بسط يمينه المباركة الحانية حتى لامست الصدر المتوهج , والفؤاد المتوثب , فكانت السكينة العميقة عمق المحيط ... وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما يفوق ضعف سنه وعمره , ومعه من التصميم ما يُغَيّر سير الزمان...!!!
* * *
كانت أم مصعب " خناس بنت مالك " تتمتع بقوة فذّة في شخصيتها , وكانت تهاب إلى حد الرهبة ..
ولم يكن " مصعب " حين أسلم لِيحاذر أو يخاف قوة على وجه الأرض سوى أمه.
فلو أن مكة بكل أصنامها وأشرافها وصحرائها , استحالت هولاً يٌقارعه ويُصارعه , لاستخفَّ به " مصعب " إلى حين..
أما خصومة أمه , فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعاً , وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمراً .
وظل يتردد على دار الأرقم , ويجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهو قرير العين بإيمانه , وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم عن إسلامه خبراً ..
ولكن مكة , وفي تلك الأيام بالذات , لا تخفى فيها سر , فعيون قريش وآذانها على كل طريق , ووراء كل بَصمة قَدم فوق رمالها الناعمة الواشية ...
ولقد أبصر به " عثمان بن طلحة " وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم ... ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد , فسابق ريح الصحراء وزوابعها , شاخصاً إلى أم مصعب , حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف " مصعب " أمام أمه , وعشيرته , وأشراف مكة المجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته , القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم , ويملؤها به حكمة وشرفاً , وعدلا وتُقى .
وهمت أمه أن تسكته بلطمة قاسية , ولكن اليد التي امتدت كالسَّهم , ما لبثت أن استرخت وترخت أما النور الذي زاد وسامه وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام , وهدوءاً يفرض الإقناع...
ولكن , إذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى , فإن في مقدرتها أن تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر...
وهكذا مضت به إلى ركن قصي من أركان دارها , وحبسته فيه , وأحكمت عليه إغلاقه , وظل رهين محبسه ذاك , حتى خرج بعض المؤمنين المهاجرين إلى أرض الحبشة , فاحتال لنفسه حين سمع النبأ , وغافل أمه وحراسه , ومضى إلى الحبشة مهاجراً أواباً ..
ولسوف يمكث بالحبشة مع إخوانه المهاجرين , قم يعود معهم إلى مكة , ثم يهاجر إلى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن , سواء كان " مصعب " بالحبشة أم في مكة , فإن تجربة إيمانه تمارس تفوقها في كل مكان وفي كل زمان , ولقد فرغ من إعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار , واطمأن " مصعب " إلى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدم قرباناً لباريها الأعلى , وخالقها العظيم ..
خرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله , فما أن أبصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً..
ذلك أنهم رأوه .. يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً , وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه , حين كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة , وألقاً , وعطراً..
وتملَّى رسول الله مظهره بنظرات حكيمة , شاكرة , مُحبة , وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة , وقال:
[ لقد رأيت مصعب هذا , وما بمكة فتى أنْعمُ عند أبويه منه , لقد ترك ذلك كله حُبَّاً لله ورسوله ] .. !!
لقد منعته أمه حين يئست من رِدَّته كل ما كانت تفيض عليه من النعمة ..
وأبت أن يأكل طعامها إنسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها , حتى لو يكون هذا الإنسان ابنها .. !!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرة أخرى بعد رجوعه من الحبشة . فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه ..
وإنها لتعلم صدق عزمه إذا همَّ وعزم , فودعته باكية , وودعها باكياً ..
وكشفت لحظة الوداع عن إصرار عجيب على الكفر وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الإبن .. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك لم أعد لك أماً .. فاقترب منها وقال:
[ يا أُمًّه , إني لكِ ناصح , وعليك شفوق ؛ فا شْهدي أنه لا إله إلا الله , وأن محمداً عبده ورسوله ]..
أجابته غاضبة مهتاجة : " قسما بالثَّواقِب , لا أدخل في دينك ؛ فَيُزْرى برأيي , ويضعف عقلي "... !!
وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة .. وأصبح الفتى المتأنق المعطًّر , لا يُرى إلا مرتدياً أخسن الثياب , يأكل يوماً , ويجوع أياماً , ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة , والمتأنقة بنور الله , كانت قد جعلت منه انساناً آخر يملأ الأعين جلالاً , والأنفس روعة ..
* * *
وآنئذ , اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها : أن يكون سفيره إلى المدينة , يُفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة , ويُدخل غيرهم في دين الله , ويُعدُّ المدينة ليوم الهجرة العظيم ..
كان في أصحاب الرسول يومئذ من هم أكبر منه سناً وأكثر جاهاً , وأقرب من الرسول قرابة .. ولكن الرسول اختار مصعب الخير , وهو يعلم أنه يكل إليه بأخطر قضايا الساعة , ويلقي بين يديه بمصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة , ومنطلق الدعوة والدعاة , والمبشرين والغزاة , بعد حين من الزمان قريب ..
وحمل " مصعب " الأمانة مستعيناً بما أنعم الله عليه من عقل راجح وخلق كريم .. ولقد غزا أفئدة أهل المدينة بزهده وترفعه وإحلاصه , فدخلوا في دين الله أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول إليها وليس فيها سوا اثني عشر مسلماً هم الذين بايعوا النبي من قبلُ بيعة العقبة , ولكنه لم يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول ..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة , كان مسلمو المدينة يرسلون إلى مكة للقاء الرسول وفداً يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمناً مؤمنة ..
جاؤوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم إليهم " مصعب بن عمير "..
لقد أثبت " مصعب " بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرف كيف يختار..
فلقد فهم " مصعب " رسالته تماماً ووقف عند حدودها.. عرف أنه داعية إلى الله , ومبشر بدينه الذي يدعو الناس إلى الهدى , وإلى صراط مستقيم.. وأنه كرسوله الذي آمن به , ليس عليه إلا البلاغ..
هنالك نهض في ضيافة " أسعد بن زرارة " يغشيان معاً القبائل والبيوت والمجالس , تالياً على الناس ما معه من كتاب ربه , هاتفاً بينهم في رفق عظيم بكلمة الله [ إنما الله إله واحد ]...
ولقد تعرض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه , لولا الله ثم فطنة عقله , وعظمة روحه..
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الناس " أُسيد بن حُضير " سيد بني الأشهل بالمدينة , فاجأه شاهراً حربته , يتوهج غضباً وحنقاً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم .. ويدعوهم لهجر آلهتهم , ويحدثهم عن إله واحد لم يعرفوه من قبل , ولم يألفوه من قبل .. !
إن آلهتهم معهم رابضة في مجاثمها , إذا احتاجها أحدهم عرف مكانه وولى وجهه ساعياً إليها , فتكشف ضره وتلبي دعاءه ... هكذا يتصورون ويتوهمون ..
أما إله محمد الذي يدعوهم إليه باسمه هذا السفير الوافد إليهم , فما أحد يعرف مكانه , ولا أحد يستطيع أن يراه .. !!
وما إن رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون " مُصعباً " مَقْدِمَ " أُسيد بن حضير " متوشحاً غضبه المتلظي , وثورته المتحفزة , حتى وَجِلوا .. لكن " مصعب الخير " ظل ثابتاً , وديعاً , متهللاً ..
وقف أسيد أمامه مهتاجاً , وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة: " ما جاء بكما إلى حيّنا , تُسفّهان ضعفاءنا ..؟ اعتزلانا , اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة "..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته .. انفجرت أسارير مصعب الخير وتحرك بالحديث الطيب لسانه فقال: [ أولا تجلس معنا فتستمع ..؟! فإن رضيتَ أمرنا قَبِلْتهُ .. وإن كرهته كففنا عنك ما تكره ]..
الله وأكبر.. ما أروعها من بداية سيسعد لها الختام..!!
كان " أسيد " رجلاً أريباً عاقلاً .. وها هوذا يرى مصعباً يحتكم معه إلى ضميره .. فيدعوه إلى أن يسمع لا غير.. فإن اقتنع , تركه لاقتناعه , وإن لم يقتنع ترك " مصعب " حيهم وعشيرتهم , وتحول إلى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مُضَارّ..
هنالك أجابه " أسيد " قائلا: أنصفت.. وألقى حربته إلى الأرض وجلس يُصغي ..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن , ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - , حتى أخذت أسارير " أسيد " تبرق وتشرق .. وتتغير مع مواقع الكلام , وتكتسي بجماله ..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به " أسيد بن حضير " وبمن معه قائلاً:
" ما أحسن هذا القول وأصدقه... كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين "..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّاً , ثم قال له مصعب : [ يطهر ثوبه وبدنه , ويشهد ألا إله إلا الله ]..
فغاب " أسيد " عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه , ووقف يعلن أنه يشهد ألا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء " سعد بن معاذ " فأصغى لمصعب واقتنع , وأسلم , ثم تلاه " سعد بن عبادة ".. وتمت بإسلامهم النعمة , وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون : إذا كان أسيد بن حضير , وسعد بن معاذ , وسعد ابن عبادة قد أسلموا , ففيم تخلّفنا...؟ هيا إلى مصعب , لنؤمن معه , فإنهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه...!!
* * *
لقد نجح أول سفراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجاحاً منقطع النظير .. نجاخاً هو له أهل , وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام , ويهاجر الرسول وصحبه إلى المدينة , وتتلمظ قريش بأحقادها .. زتعدّ عُدّة باطلها , لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر, فيتلقون فيها درساً يفقدهم بقية صوابهم ويسعون إلى الثأر , وتجيء غزوة أُحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم , ويقف الرسول -صلى الله عليه وسلم - وسط صفوفهم يتفرس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية .. ويدعو مصعب الخير , فيتقدم ويحمل اللواء..
وتَشِبُّ المعركة الرهيبة , ويُحتدم القتال , ويُخالف الرماة أمر الرسول عليه السلام . زيغادرون مواقعهم أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين , لكن عملهم هذا , سرعان ما يحوّل نصر المسلمين إلى هزيمة .. ويفاجأُ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل , وتُعمل فيهم على حين غرة , السيوف الظامئة المجنونة..
وحين رأوا الفوضى والذعر يمزقان صفوف المسلمين , ركّزوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينالوه ..
وأدرك " مصعب بن عمير " الخطر الغادر , فرفع اللواء عالياً , وأطلق تكبيرة كالزئير , ومضى يصول ويجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء إليه ويشغلهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلم بنفسه , وجرّد من ذاته جيشاً بأسره.... أجل , ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لَجِبٌ غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفوان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه , يريدون أن يعبروا فوق جثته إلى حيث يلقون الرسول..
ولْندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الختام في حياة مصعب العظيم..!!
قال:
[ حمل " مصعب بن عمير " اللواء يوم أُحُد , فلما جَالَ المسلمون ثبت بِه مصعب ’ فأقبل ابن قميئة وهو فارس , فضربه على يَده اليمنى فقطعها , ومصعب يقول: وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلتَ من قبلهِ الرُّسُلُ..
......" وأخذ اللواء بيده اليسرى وحَنَا عليه , فضربَ يده اليُسرى فقطعها , فَحنا على اللواء وضمَّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلت من قبله الرُّسل......
" ثمَّ حملَ عليه الثالثة بالرُّمح فّأنْفذهُ واندقَّ الرُّمح , ووقع مصعب , وسقط اللواء ] ...
وقع مصعب ... وسقط اللواء..!!
وقع حِلْية الشهادة , وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والإيمان..
كان يظن أنه إذا سقط , فسيصبح طريق القتلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالساً من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه السلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعاً:
[ وما محمد إلاّ رسولٌ قَدْ خَلتْ من قبلهِ الرُّسلُ ]..
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها , ويكملها , ويجعلها , قرآناً يُتلى ..
* * *
وبعد انتهاء المعركة المريرة , وُجد جثمان الشهيد الرشيد راقداً , وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية ..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء , فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يُحاذره ويخشاه ... !!
أو لكأنمه استحى إذا سقط شهيداً قبل أن يطمئن على نجاة رسول الله , وقبل أن يؤدي إلى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه .. !!
لك الله يا مصعب .. يا من ذِكْركَ عِطر للحياة .. !!
* * *
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها ..
وعند جثمان مصعب , سالت دموع وفية غزيرة ..
يقول خَبَّاب ين الأرتّ :
[ هاجرْنَا معَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله , نبتغي وجه الله , فوجبَ أجرْنا على الله .. فمنا من مضى , ولم يَأْكل من أجره في دنياه شيئاً - منهم مصعب بن عمير - قُتلَ يوم أُحُد.. فلم يوجد لهُ شيء يكفن فيه إلا نَمِرَة.. فكنا إذا وضعناها على رَأسه تَعَرَّتْ رجلاه , وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه , فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { اجعلوها مما يلي رأْسَهُ , واجعلوا على رجليهِ من نبات الإذْخر}.. ] ..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رُزء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عمه حمزة , وتمثيل المشركين بجثمانه تمثيلاً أفاض دموع الرسول عليه السلام , وأوجع فؤاده ...
وعلى الرغم من امتلاء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالماً من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا , فقد وقف على جثمان أول سفرائه , يودعه وينعاه .. أجل .. وقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما :
{ من المؤمنينَ رجالٌ صدقُوا ما عَاهدُوا الله عليه } ..
ثم ألقى في أسى نظرة على بُرْدته التي كُفّن فيها وقال :
{ لقد رأيتكَ بمكة , وما بها أرقّ حُلَّةً , ولا أحسن لِمَّةً منكَ .. ثم ها أنتَ ذا شَعِثُ الرأس في بُرْدَة }..؟!
وهتف الرسول عليه السلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من " رِفاق مصعب " وقال :
{ إنَّ رسولَ الله يشهدُ أنكم الشهداءُ عند الله , يوم القيامة } ..
قم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال :
{ أيها الناسُ زوروهم , وَأْتوهُمْ , وسَلّموا عليهم , فوالذي نفسي بيده , لا يُسلم عليهم مُسَلّمٌ إلى يوم القيامة , إلا رَدُّوا عليه السلام } ..
* * *
السلام عليك يا مصعب...
السلام عليكم يا معشر الشهداء...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
=====================
المصدر: كتاب رجَال حَوْلَ الرسُول/للكاتب خَالِد محمَّد خَالِدْ