المقدمة :
بسم الله و الصلاة و السلام على اشرف الخلق و سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم
حملت الدولة العثمانية لواء الجهاد منذ تأسيسها عام 1299 و خلافة المسلمين بشكل عام منذ عام 1517 الى 1909 حيث تم عزل السلطان عبد الحميد الثاني - رحمه الله - و حكم الاتحاديون ( حزب الاتحاد و الترقي ) البلاد و لم يكن بقية الخلفاء الا صورة فقط .
ومما يجدر ذكره أن السلاطين العثمانيين تربوا وترعرعوا منذ نعومة أظفارهم على حب الرسول المصطفى صلى الله عليه و سلم والتأسي بسنته الطاهرة .
لا اطيل عليكم و اترككم تقرأون هذا المقال ...
سلاطين بني عثمان .. قلوب احترقت في حب الرسول صلى الله عليه و سلم
ظلال حزن، وسكون كئيب قد خيم على جنبات الغرفة.. رجال القصر ملتفون حول سرير السلطان وهو يرقد على فراش الموت.. الكل من حوله يترقب حركة شفتيه.. فتح السلطان مراد الثاني عينيه ليلمح وزيره، قال بصوت خافت:
- اقرأ يا إسحاق، اقرأ وصيتنا!
فبدأ إسحاق باشا يقرأ الوصية بصوت عالٍ:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. توكلت على الله رب العرش العظيم. كل نفس ذائقة الموت. فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور.. أما بعد؛ أوصيكم بأن توزعوا ثلث أملاكي في ولاية (صاروهان)، على أن يكون 3500 قطعة ذهبية منها إلى فقراء مكة المكرمة، و3500 قطعة ذهبية إلى فقراء المدينة المنورة. ووزعوا 500 قطعة أخرى على الذين يكثرون من تلاوة القرآن الكريم من أهالي مكة المكرمة في حرم بيت الله ثم يرددون كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) 70 ألف مرة ويهدون ثوابها للموصي.
وأوصيكم أن توزعوا 2500 قطعة ذهبية من أملاكي هذه، على الذين يكثرون من تلاوة القرآن الكريم ثم يرددون كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) 70 ألف مرة في قبة الصخرة بساحة المسجد الأقصى".
وإذا ما أمعنا النظر في هذه الوصية نرى بوضوح حب السلطان مراد الثاني لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم ؛ لأن أراضي الحجاز (مكة المكرمة- المدينة المنورة) والقدس (المسجد الأقصى) في تلك الآونة لم تكن في حوزة الدولة العثمانية بعدُ. وما هذا إلا تعبير عن الحب الذي سكن بين ثناياه وأترع قلبه. فهو لحرمة الأقدام المباركة التي لمست تربة تلك الأراضي، ولحرمة أهالي تلك المنطقة، أبدى هذا السخاء وجاء بهذا العطاء.
العام 1453م... القائد فتًى في ريعان شبابه يقود جيشه في ملحمة فتح إسطنبول ونشر الإسلام.. وهو صاحب بشارة الرسول صلى الله عليه و سلم .. نصب خباءه أمام أسوار إسطنبول ليفتحها بإذن ربه في فجر يوم الجمعة.. يخرج القائد العظيم في إحدى الليالي إلى شيخه "أقْ شمس الدين" ويبدي رغبته في العثور على قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي قام باستضافة الرسول صلى الله عليه و سلم في بيته عقب الهجرة النبوية... وكان أبو أيوب الأنصاري قد خرج مع جيش المسلمين لفتح إسطنبول في عهد الأمويين، واستشهد تحت أسوارها.
فيخرج "أقْ شمس الدين" برفقة السلطان من الخيمة، ويصلا إلى ساحل القرن الذهبـي، وهناك يشير الشيخ إلى مكان قريب من الأسوار ويقول: "ها هنا القبر يا جلالة السلطان". فيأمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جامع وضريح في هذا المكان على الفور. وبعد الفتح يبنى الجامع والضريح.. نصل من هذه القصة إلى نتيجة أن السلاطين العثمانيين أبدوا حبًّا جمًّا ليس للرسول صلى الله عليه و سلم فحسب، بل لأصحابه الذين حملوا رائحته العطرة ورائحة بلدته الطاهرة أيضًا.
ولقد ورّث السلطان محمد الفاتح هذه المحبة لابنه السلطان بايزيد الثاني أيضًا... يقوم السلطان بايزيد خان بزيارة صديقه الذي يحبه في الله "بابا يوسف" لتوديعه قبل ذهابه إلى الحج، يسلّمه كمية من الذهب ويقول: "هذا ما رزقني الله به من عرق جبيني. ولقد ادخرته من أجل صيانة قناديل الروضة المطهرة. عندما تقف في حضرة الرسول صلى الله عليه و سلم أريد منك أن تقول: يا رسول الله، خادمك الفقير (بايزيد) يُقرِئك السلام ويقول لك: إنه قد أرسل هذه القطع من الذهب لشراء زيت قناديل الروضة، فاقبلها منه...".
وفي عهد السلطان سليم الأول نرى أن هذا الحب النبوي يكتسب بُعدًا آخر؛ حيث تنضم أراضي الحجاز في عهده إلى الدولة العثمانية ويتوحد العالم الإسلامي تحت راية واحدة.
وسرعان ما يذيع صيت السلطان سليم في العالم الإسلامي، ويبدأ الخطباء في المساجد يقرءون الخطب باسمه مستخدمين لقب "حاكم الحرمين". إلا أن السلطان سليم لم يكن راضيًا عن هذا اللقب أبدًا.
وفي يوم من الأيام وهو يصلي صلاة الجمعة في الجامع الكبير بحلب، يسمع هذه اللفظة من خطيب الجامع، فيهب مسرعًا ويقول: "لا لا، لستُ حاكمًا للحرمين، بل خادمًا لهما". فيعدّل الخطيب كلامه كما أشار به السلطان. وبعد الصلاة يقوم السلطان بتقديم قفطانه هدية إلى الخطيب، وشكرًا له. فبهذا يشهد له التاريخ مرة أخرى احترامه وحبه العميق تجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم .
والجدير بالذكر أنه كان من بين سلاطين آل عثمان مَن رأى الرسول صلى الله عليه و سلم في المنام. وبالأوامر والإشارات التي تلقّاها منه تمكّن من فتح بلاد عديدة بإذن الله سبحانه وتعالى. والدليل على ذلك رؤية السلطان سليمان القانوني، إذ رأى الرسول يقول له: "إذا ما فتحت قلاع بلجراد ورودس وبغداد، فقم بإعمار مدينتي". فسرعان ما يأمر السلطان بإعمار أراضي الحرمين ووضع مشاريع الإسكان لها. حتى إنه ترك وصية يطلب فيها أن يُنشأ من ثروته الخاصة وقفٌ خيري يلبي حاجة المياه لحجاج بيت الله الحرام. وبعد وفاته قامت ابنته "مهرماه سلطان" بتحقيق وصيته وأمرت بجلب مياه عين زبيدة من عرفات إلى مكة المكرمة.
السلطان أحمد الأول، يصعد العرش في وقت حرج، حيث تسود الاضطرابات وتنتشر الفوضى في معظم الأراضي العثمانية. إلا أن هذا السلطان الشاب المهموم كان مفعمًا بالروح المعنوية العالية. فراح يبحث عن الدواء في عصره الذي يعيش فيه، ولكن دون جدوى، فيقرر في نهاية المطاف أن يرجع إلى الماضي، ويبحث عن غرضه هناك.. فيخرج في إحدى الليالي خفيةً إلى جناح الأمانات المقدسة بقصر طوب قابي... يمسك نعل الرسول ويضمه إلى صدره .
ومنذ ذلك الوقت أخذ السلطان أحمد الأول يحمل صورة لأثر القدم النبوي الشريف داخل قفطانه.
وكان السلطان عبد العزيز أيضًا من عشاق النبي صلى الله عليه و سلم ؛ ففي إحدى الأيام وصلت رسالة إلى القصر من المدينة المنورة، وكان السلطان في تلك اللحظة مصابًا بمرض شديد أقعده في الفراش. فتردد رجال الدولة بادئ الأمر في تقديم الرسالة إلى السلطان عبد العزيز بسبب مرضه هذا، ولكنهم كانوا يعرفون في الوقت نفسه، مدى حساسيته تجاه المدينة المنورة وحبه لها، فاضطروا إلى تقديمها له في نهاية الأمر.
وعندما اقترب الوزير منه وأخبره أن رسالة وصلت من المدينة المنورة، لمعت عينا السلطان وطلب من الوزير ألا يبدأ بالقراءة حتى يأمره بذلك، ثم قال لمن حوله: "ارفعوني.. فلا يمكن أن أسمع رسالة وصلت من الأراضي المقدسة وأنا نائم". واستمع إلى ما في الرسالة واقفًا على رجليه رغم وطأة المرض. ومما يجدر ذكره هنا، أن السلطان عبد العزيز كان لا يتناول أي ملف أو أوراق قادمة من المدينة المنورة دون أن يجدد الوضوء؛ لأن هذه الأوراق بالنسبة له تحمل غبار بلدة الرسول صلى الله عليه و سلم
ورائحته العطرة. لذا كان يقبلها أولاً، ثم يضعها على جبينه، ثم يشمها بحرارة ثم يفتحها ليقرأها.
تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة في وقت كانت فيه الدولة العثمانية في منتهى السوء والاضطراب، سواء في الأوضاع الداخلية أو الخارجية.. وفي وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تقلد السلطان عبد الحميد الحكم، وبدأ في العمل بكل ما أوتي من قوة ليوحد المسلمين من جديد تحت راية الإسلام. فقام في عهده بتنفيذ مشاريع مهمة غاية الأهمية، منها إنشاء خط حديد الحجاز الذي امتد من إسطنبول إلى المدينة المنورة. وكانت الغاية العظيمة في ذلك، الدفاع عن الأراضي المقدسة من هجمات العدو، ثم تأمين راحة الحجاج خلال رحلتهم إلى الحرمين الشريفين.
ومما نريد لفت الأنظار إليه في هذا الصدد أنه قد جرى إنشاء الخط الواقع بين مدائن صالح والمدينة المنورة كله بأيدي المهندسين والعمال المسلمين فقط؛ لأن هذا الجزء كان داخل حدود منطقة الحرم. وعندما وصل الخط إلى المدينة المنورة في 31 أغسطس من عام 1908م، أمر السلطان عبد الحميد الثاني بأن يُمَدَّ اللباد على الخط في آخر ثلاثين كيلومترًا منه. كما أن مقطورة القطار كانت عند وصولها إلى المدينة المنورة تخفض من سرعتها وتقترب من رصيف المحطة ببطء .
ثم ينـزل الركاب من القطار ماشين على أطراف أقدامهم بتأدب واحترام... أما اللباد الممدود على سكة الحديد فيتم غسله بماء الورد خلال كل يوم في ساعات معينة؛ وذلك احترامًا لتلك الأراضي المباركة وتقديسًا لها.
لقد حمل سلاطين بني عثمان من أوَّلهم إلى آخرهم، مشاعر عذبة وحبًّا فياضًا ولهفة شديدة إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم و إلى القرب منه. ولعل أهم ميراث تركوه لنا هو هذا الحب النقي الصافي.
بقلم : ضياء دميرال .