المبحث الثاني
إسلامه ودعوته وابتلاؤه وهجرته الأولى
أولاً: إسلامه:
كان إسلام أبي بكر -
رضي الله عنه- وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قطع الفيافي والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية، وتنقل من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقًا بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم، فقد حدث عن نفسه فقال: كنت جالسًا بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيل قاعدا، فمر ابن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال:
كل دين يوم القيامة إلا *** ما مضى في الحنيفية بور
أما إنَّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسبًا -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسبًا، قلت: يا عم وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له؟ إلا أنه لا يظلم، ولا يُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- آمنت به وصدقته ، وكان يسمع ما يقوله أمية بن أبي الصلت، في مثل قوله:
ألا نبي لنا منا فيخبرنا *** ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حج الحجيج له *** والرافعون لدين الله أركانا
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة ببصيرة نافذة، وعقل نير، وفكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار: فعندما سأل الرسول الكريم -
صلى الله عليه وسلم- أصحابه يومًا -وفيهم أبو بكر الصديق- قائلا: «
من منكم يحفظ كلام قس بن ساعدة في سوق عكاظ؟»، فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلا: إني أحفظها يا رسول الله, كنت حاضرًا يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قس يقول: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إن من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعِبَرًا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسمات ذات أبراج!!
يُقسم قس: إن لله دينًا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، ثم أنشد قائلاً:
في الذاهبين الأولين *** من القرون لنا بصائره
لما رأيت مواردًا *** للموت ليس لها مصادره
ورأيت قومي نحوها *** يسعى الأكابر والأصاغره
أيقنت أني لا محا *** لة حيث صار القوم صائره
وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني، يقص الصديق ما قاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه .
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بحيرا الراهب ، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه .
لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار، وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي -
صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي -
صلى الله عليه وسلم- وأخذ يدعو الأفراد إلى الله، وقع أول اختياره على الصديق-
رضي الله عنه-؛ فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي -
صلى الله عليه وسلم- بصدقه، وأمانته وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله؟.
فعندما فاتحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوة الله وقال له: «
...إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته».
فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهد، ولهذا قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- في حقه: «
إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟» مرتين.
وبذلك كان الصديق -
رضي الله عنه- أول من أسلم من الرجال الأحرار، قال إبراهيم النخعي، وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر: أول من أسلم أبو بكر، وقال يوسف ابن يعقوب الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا: محمد بن المنكدر، وربيعة بن عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد الأخنس، وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول من صلى أبو بكر، ثم تمثل بأبيات حسان:
إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة *** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها *** إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده *** وأول الناس طرًّا صدق الرسلا
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد *** طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وعاش حمدًا لأمر الله متبعًا *** بهدى صاحبه الماضي وما انتقلا
وكان حب رسول الله قد علموا *** من البرية لم يعدل به رجلا
هذا وقد ناقش العلماء قضية إسلام الصديق، وهل كان -رضي الله عنه- أول من أسلم؛ فمنهم من جزم بذلك، ومنهم من جزم بأن عليًا أول من أسلم، ومنهم من جعل زيد بن حارثة أول من أسلم. وقد جمع الإمام ابن كثير -
رحمه الله- بين الأقوال جمعًا طيبًا فقال: «
والجمع بين الأقوال كلها: أن خديجة أول من أسلم من النساء -وقيل الرجال أيضا- وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب، فإنه كان صغيرًا دون البلوغ على المشهور وهؤلاء كانوا آنذاك أهل بيته -صلى الله عليه، وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم؛ إذ كان صدرًا معظمًا، رئيسًا في قريش مكرمًا، وصاحب مال وداعية إلى الإسلام، وكان محببا متآلفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله» ثم قال: وقد أجاب أبو حنيفة -
رحمه الله- بالجمع بين هذه الأقوال، فإن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين .
وبإسلام أبي بكر عمَّ السرور قلب النبي -
صلى الله عليه وسلم-؛ حيث تقول أم المؤمنين عائشة -
رضي الله عنها-: فلما فرغ من كلامه (أي النبي -
صلى الله عليه وسلم-) أسلم أبو بكر، فانطلق رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- من عنده، وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر . لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم، وهو الذي قال فيه
عليه الصلاة والسلام: «
أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» .
وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق -
رضي الله عنه- النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علمًا لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائمًا، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته.
وطبقة رجال الأعمال ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق؛ فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قُصَّاده، ولطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق
رضوان الله عليه.
كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيمًا، ولذلك عندما تحرك في دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق.
ثانيًا: دعوته.أسلم الصديق -
رضي الله عنه- وحمل الدعوة مع النبي -
صلى الله عليه وسلم-، وتعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الإيمان لا يكمل حتى يهب المسلم نفسه وما يملك لله رب العالمين ، قال تعالى:
+قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام: 162، 163]، وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة، أينما تحرك أثَّر وحقق مكاسب عظيمة للإسلام، وقد كان نموذجًا حيًّا في تطبيقه لقول الله تعالى:
+ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" [النحل: 125].
كان تحرك الصديق -
رضي الله عنه- في الدعوة إلى الله بوضوح صورة من صور الإيمان بهذا الدين، والاستجابة لله ورسوله، صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته للإسلام إلى أن توفاه الله -
عز وجل- لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز .
كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الإسلام، وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم
رضي الله عنهم. وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العُدَّة الأولى في تقوية جانب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وبهم أعزه الله وأيده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالاً ونساء، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم، رعيل السابقين، الواحد والاثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام.
اهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملاً مؤثرًا في الناس عند دعوتهم للإسلام، فقد كان رصيده الخلقي ضخمًا في قومه وكبيرًا في عشيرته، فقد كان رجلاً مؤلفًا لقومه، محببًا لهم سهلاً، أنسب قريش لقريش، بل كان فرد زمانه في هذا الفن، وكان رئيسًا مكرمًا سخيًا يبذل المال، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد، وكان رجلا بليغًا .
إن هذه الأخلاق والصفات الحميدة لا بد منها للدعاة إلى الله، وإلا أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد ونفخة في رماد، وسيرة الصديق وهي تفسر لنا فهمه للإسلام وكيف عاش به في حياته حدى بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الأفراد إلى الله تعالى.
ثالثًا: ابتلاؤه:إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا -
رضوان الله عليهم- من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر -
رضي الله عنه- وحثي على رأسه التراب، وضُرِبَ في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحمل إلى بيته في ثوبه وهو ما بين الحياة والموت، فقد روت عائشة -
رضي الله تعالى عنها- أنه لما اجتمع أصحاب النبي -
صلى الله عليه وسلم- وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر -
رضي الله عنه- على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كلُّ رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله -
صلى الله عليه وسلم- جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطِئ أبو بكر وضرب ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر -
رضي الله عنه-, حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون، فأجْلَتِ المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة «والده» وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟ قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قومًا نالوا منك لأهل فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الهل لك منهم، قال: فما فعل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سَالِم صَالِح، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْلُ وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، فقال: فأكب عليه رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- فقبَّله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، ودعاها إلى الله فأسلمت .
إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء بهؤلاء الصحب الكرام، ونحاول أن نستخرج بعض هذه الدروس التي منها:
1- حرص الصديق على إعلان الإسلام وإظهاره أمام الكفار، وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته، وقد تحمل الأذى العظيم، حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته. لقد أُشْرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمه بعد إسلامه إلا أن تعلو راية التوحيد، ويرتفع النداء: لا إله إلا اله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلا أن يدفع حياته ثمنًا لعقيدته وإسلامه.
2- إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة الإسلام وسط الطغيان الجاهلي، رغبة في إعلام الناس بذلك الدين الذي خالطت بشاشته القلوب رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرض له وصحبه، وما كان ذلك إلا لأنه خرج من حظ نفسه.
3- حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر وتغلب على حبه لنفسه، بدليل أنه رغم ما ألَمَّ به كان أول ما سأل عنه: ما فعل رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-؟ قبل أن يطعم أو يشرب، وأقسم أنه لن يفعل حتى يأتي رسولَ الله -
صلى الله عليه وسلم-، وهكذا يجب أن يكون حب الله ورسوله -
صلى الله عليه وسلم- عند كل مسلم؛ أحب إليه مما سواهما حتى لو كلفه ذلك نفسه وماله.
4-إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر.
5- تظهر مواقف رائعة لأم جميل بنت الخطاب، توضح لنا كيف تربت على حُب الدعوة والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، فهذا تصرف حذر سليم؛ لأن أم الخير لم تكن ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول -
صلى الله عليه وسلم- مخافة أن تكون عينًا لقريش ، وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن تطمئن على سلامة الصديق، ولذلك عرضت على أم الخير أن تصحبها إلى ابنها، وعندما وصلت إلى الصديق كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، وأبلغت الصديق بأن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- سالم صالح، ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن الناس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما (هدأت الرجل وسكن الناس) .
6- يظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها في قوله لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار. إنه الخوف من عذاب الله والرغبة في رضاه وجنته، ولقد دعا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- لأم أبي بكر بالهداية فاستجاب الله له، وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى. ونلمس رحمة الله بعباده ونلحظ من خلال الحدث (قانون المنحة بعد المحنة).
7- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق -
رضي الله عنه- نظرًا لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعًا عنه وفاديًا إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان.
رابعًا: دفاعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:من صفات الصديق التي تميز بها الجرأة والشجاعة، فقد كان لا يهاب أحدًا في الحق، ولا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله -
صلى الله عليه وسلم-، فعن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بينما النبي -
صلى الله عليه وسلم- يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي -
صلى الله عليه وسلم- وقال:
+أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ" [غافر: 28]، وفي رواية أنس -
رضي الله عنه- أنه قال: لقد ضربوا رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر -
رضي الله عنه- فجعل ينادي: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقال: أدرك صاحبك، قالت: فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا رجع معه.
وأما في حديث علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه- فقد قام خطيبًا وقال: يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، وإنا جعلنا لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم- عريشًا فقلنا: من يكون مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- لئلا يهوي عليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش، فهذا يحادَّه، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال علي: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه .
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ما تحمَّله الصديق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى،كما تعطي ملامح واضحة عن شخصيته الفذة، وشجاعته النادرة التي شهد له بها الإمام علي -
رضي الله عنه- في خلافته، أي بعد عقود من الزمن، وقد تأثر علي -
رضي الله عنه- حتى بكى وأبكى.
إن الصديق -
رضي الله عنه- أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا إلى الله ، وكان الذراع اليمنى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتفرغ للدعوة وملازمة رسول الله وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم؛ فهذا أبو ذر -رضي الله عنه- يقص لنا حديثه عن إسلامه، ففيه:
«... فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأنه أطعمه من زبيب الطائف».
وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وإنه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه، وهو يصيح بهم: «ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه، يجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع».