هي واحدة من أشهر معارك الإسلام، وفصل باهر من فصول الصراع بين الإسلام والصليبية في العصور الوسطى، بل هي تمثل فاتحة العصور الوسطى، وأعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين وأبعده أثرًا وأكثره قيمة وفاعلية، فمنذ أن خبت قوة الخلافة العباسية وتفككت أوصالها تحت أطماع أمراء وملوك الأطراف الذين استقلوا بما تحت أيديهم من أقاليم، بحيث إن الخلافة العباسية لم يبق لها سوى بغداد وما حولها، وما سوى ذلك خاضع لهذا الأمير أو ذاك السلطان وهكذا، منذ أن حدث هذا الضعف، والدولة البيزنطية الشرقية التي كانت تمثل الخصم التاريخي للخلافة الإسلامية قد استطاعت أن تدفع فتوحاتها ناحية بلاد الإسلام في منطقة الجزيرة الفراتية وشمال الشام، وأرغمت كثيرًا من أمراء المسلمين على دفع إتاوة لها نظير عدم التعرض لهم، وظل الحال على ما هو عليه حتى ظهرت القوة الجديدة والفتية وهم «السلاجقة الأتراك» والذي جاء ظهورهم كسنة ربانية في مدافعة الباطل بالحق، واستطاع أول سلاطين هذه الدولة «طغرل بك» أن يحقق عدة انتصارات مؤثرة على البيزنطيين، أحدثت رجة شديدة بالأوساط الأوروبية عامة والبيزنطية خاصة، وتمثل ذلك في كثرة تغيير قياصرة بيزنطة خلال فترة وجيزة، وأخذ الأوربيون في التشكيك في قدرة بيزنطة على حماية النصرانية في أوروبا، وقد كانت من قبل تلقب بحامية حامي النصرانية.
ظلت الأوضاع الداخلية ببيزنطة مضطربة حتى ظهر القائد العسكري «رومانوس ديوجين» وقد نال شهرة كبيرة داخل المجتمع البيزنطي بعد أن حقق عدة انتصارات على بعض أمراء المسلمين في شمال الشام في الفترة من 461هـ ـ 463هـ، وكان السلاجقة خلال هذه الفترة منشغلين ببعض الفتن الداخلية، التي وقعت بعد وفاة طغرلبك وتنصيب ابن أخيه «ألب أرسلان» ومعناها بالتركية الأسد الباسل، واتجهت آمال البيزنطيين نحو «رومانوس» واختاروه قيصرًا عليهم ولقبوه «رومانوس الرابع»، وعلى الفور قرر «رومانوس الرابع» التحضير لعمل عسكري كبير وضخم ينهي به الوجود الإسلامي في منطقة آسيا الصغرى والجزيرة الفراتية، فهو يعلم أن الشعب البيزنطي قد انتخبه واختاره لكفاءته العسكرية، فهو قد جاء في هذه الفترة لقتال المسلمين ، وهذا الهدف كان الأجندة الوحيدة التي تم اختيار «رومانوس» من أجلها، وقد حشد «رومانوس» لهذه المعركة الفاصلة أربعمائة ألف مقاتل، جاء شطر كبير منهم من أوروبا الغربية، إضافة لعتاد حربي ضخم، وفي نية رومانوس اكتساح بلاد الإسلام كلها حتى بغداد عاصمة الخلافة، ومن شدة ثقته من النصر وزع ولاية الأقاليم التي سيفتحها على أمرائه، وهو طبعًا لا يعرف ما يخبئه له القدر المحتوم.
وصلت أخبار هذه الحملة الجرارة للسلطان «ألب أرسلان» وكان وقتها في مدينة «خوى» من أعمال أذربيجان، ولم يكن معه سوى خمسة عشر ألفًا من المقاتلين، وكان البيزنطيون قد اخترقوا قلب الأناضول ووصلوا إلى مدينة «ملاذ كرد» أو منازكرت، وهي مدينة حصينة على نهر «مرادسو» وهي مازالت قائمة حتى الآن بتركيا، فأسرع ألب أرسلان لوقف تقدم البيزنطيين، والتقت طلائع السلاجقة مع طلائع البيزنطيين وكانوا من القبائل الروسية، فانتصر المسلمون انتصارًا باهرًا، ولكن هذا النصر القوي لم يدفع القائد المحنك «ألب أرسلان» بالتعجيل في الصدام بجيشه الصغير مع حملة ضخمة بمثل هذا العدد، فأرسل في طلب هدنة من «رومانوس»، فظن «رومانوس» أن ألب أرسلان ما طلب الهدنة إلا من ضعف أو خوف، فرفض الهدنة ، وقال بكبر وصلف صليبي: «لا هدنة إلا في الري» وهي كلمة سيدفع ثمنها بهزيمة لم يسمع بمثلها في التاريخ، و«الري» هي عاصمة السلاجقة في خراسان.
عندما وصل هذا الرد لألب أرسلان أخذته حمية الإسلام وعزة المسلم وأنفته وقرر القتال رغم الفارق الضخم بين الطرفين، وعملاً بنصيحة العلماء والفقهاء المصاحبين لألب أرسلان قرر ألب أرسلان أن يكون الصدام يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر ويدعون للمجاهدين بالنصر، وفي يوم الجمعة 7 من ذي القعدة سنة 463هـ قام ألب أرسلان وصلى بالناس وبكى ودعا الله عز وجل طويلاً ولبس البياض وتكفن وتحنط وقال: «إن هزمت فإن ساحة الحرب تغدو قبري» ثم اندلع القتال الشامل بين الجيشين في معركة بكل المقاييس لا تصدق ولا يوجد بها نسبة خطأ في أن النصر لصالح البيزنطيين، ولكن كل هذه المقاييس ذهبت سدى أمام عزيمة وإيمان الفئة المؤمنة، ولجأ رومانوس للزحف بجيشه كله مرة واحدة ليسحق جيش السلاجقة، ولكنه فوجئ بالثبات العظيم للمسلمين، ولم تغرب شمس هذا اليوم إلا والمسلمون قد حققوا واحدًا من أعظم الانتصارات خلال عدة قرون، ووقع رومانوس نفسه في الأسر، فقام ألب أرسلان بتأنيبه على أفعاله وضربه بيده ثلاث مقارع، ويقال : إنه وضع قدمه على هامة «رومانوس» تحقيرًا وإذلالاً له، ثم عفا عنه بعد أن اشترط عليه عدم العودة لقتال المسلمين أبدًا.
كان لهذه المعركة نتائج خطيرة على الصعيد العالمي، بل هي أهم حدث في التاريخ العالمي خلال عدة قرون؛ إذ أدت الهزيمة المروعة للبيزنطيين لبداية انهيار الإمبراطورية القديمة، وفتحت الطريق أمام تدفق المسلمين السلاجقة إلى منطقة الأناضول وتأسيس سلطنة سلاجقة الروم هناك، أما أهم أثر لهذه المعركة فأنها كانت السبب المباشر لتحضير أوروبا الغربية للحملات الصليبية الشهيرة على بلاد الشام ومصر حيث أدرك البابا «جريجوري السابع» أن بيزنطة لم تعد السد المنيع أمام الانسياح الإسلامي على أوروبا، ومن ثم كان لابد من التحضير لعمل كبير لوقف الفتوحات الإسلامية على الجبهة الأوروبية، ومن ثم كانت الحملات الصليبية.
المصدر : مفكرة الإسلام